صاحب الغبطة يوسف
كلمة صاحب الغبطة في المؤتمر حول "المرأة ودورها في زمن التحولات" - لقاء
بروتوكول 235/2012ر
الربوة في 30/4/2012
كلمة صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث
في المؤتمر حول "المرأة ودورها في زمن التحولات"
"لقاء" المركز العالمي لحوار الحضارات
3/5/2012
أيها الإخوة والأخوات الأحباء!
تحية وأهلاً وسهلاً بكم في مركز "لقاء"! أهلاً وسهلاً بكم في كل حين، لنستضيفكم ونستضيف مؤتمراتكم ونرحب بأصدقائكم.
في الجزء الثاني من القرن العشرين، بدأت المرأة في العالم العربي تحصل على حقوقها في الحضور المتكافئ إلى جانب الرجل في مختلف النواحي (حق التصويت والترشح والتوظف إلخ...). اليوم، لايزال هناك تفاوت في العالم العربي في ما يخصّ دور المرأة وهذا التفاوت مرتبط بالطبيعة السياسية لبعض الدول، أي الدول ذات الحكم الديني.
خلال الأحداث التي شغلت العالم العربي في السنة الماضية والحالية، شاركت المرأة في التظاهرات السلمية المطالبة بالتغيّير. لكن، في ظل تسونامي الثورات الراهنة منذ أواخر 2010 وحتى الآن قد أفرزت وعززت تيارات دينية هدامة.
على أثر الأنطمة الجديدة التي تصل إلى الحكم بعد الثورات الراهنة في العالم العربي، يشهد دور المرأة تراجعًا ملحوظًا. هناك في الحقيقة قلق من ضياع الحقوق التي حصّلتها المرأة في المرحلة الماضية مثل حقّها في المشاركة في الحياة السياسية وفي العمل وفي الحماية القانونية من الأعراف القبلية وغيرها. إنه قلق يشمل باقي عناصر الدولة مثل الحريات الشخصية، حرية التفكير والتعبير، تداول السلطة وغيرها.
يرتبط إذًا السوال حول دور المرأة بالسؤال حول المجتمع الذي يريده المواطن العربي اليوم. بالتأكيد، الدولة المدنية تكفل حقوق المرأة. يبقى هناك الكثير من النواحي التي تحتاج إلى تعميق من خلال الرؤية الإيمانية للإنسان بشكل عام وللمرأة بشكل خاص. الشرع الدولية تطالب بإقرار دور المرأة في الدستور أولاً ثم في التشريع ثم في الحماية من خلال المحاكم.
في "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة" الصادر عن الأمم المتحدة عام 1980، وهي ملزمة للدول التي وقعت عليها، خطوات واضحة ومهمة في سبيل حماية دور المرأة. وهي حقوق لا تأخدها للأسف ثورات اليوم بعين الاعتبر.
المساواة في التميّز
إن من واجبي أن أطرح رؤيتي الإيمانية المسيحية حول المرأة. وكلنا من واجبنا أن نُغْني بعضنا بعضًا، كلٌّ من خلال إيمانه بالله وأخيه الإنسان.
أ. نظرة السيد المسيح
إن نظرة السيد المسيح للمرأة ليست مبنية على منطلقات المساواة بين المرأة والرجل بل على تخصيص دور فريد لكل منهما يتكافئ الواحد مع الآخر. في حياته اليومية في المجتمع اليهودي، أثار السيد المسيح الكثير من الاستغراب في طريقته بالتعاطي مع العادات التي كانت تعتبر غير محبذة أو حتى محرّمة: الجلوس مع الخطأة، التخالط مع البرص والمرضى، التداول مع العشارين، التعاطي مع جميع الفرق اليهودية على الرغم من اختلافاتها، وبالتأكيد التعامل مع المرأة بشكل خاص. تذكر الرسالة الرسولية للبابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني، "كرامة المرأة" ودعوتها بمناسبة السنة المريمية (Mulieris dignitatem)؛ تذكر كيف نصّب السيدُ المسيح نفسَه محاميًا عن كرامة المرأة وعن دعوتها الخاصة. على صعيد مكان المرأة في الزواج وفي الأسرة، واجه السيد المسيح معاصريه وأوضح الإطار الذي أعطيت فيه شريعة موسى (حول الطلاق)، وأعاد إلى الواجهة الهدف الأساسي من الخلق "ليكونوا واحدًا" و"ما جمعه الله لا يفرقه إنسان" (متى 19، 6).
إن مدلولات هذه الأعمال كثيرة جدًا. فالمسيح يعيد تصويب التاريخ البشري إلى غاية الله الأساسية. وهي نقطة مبينة على فهم خلق الرجل والمرأة على صورة الله ومثاله. الرجل والمرأة معًا هما في صلب عمل الله الخلاصي، وهذا ما أراد المسيح توضيحه والتأكيد عليه. تقول الرسالة في كرامة المرأة: " إنّ مبدأ هذه المسلكيّة، المُدرج منذ "البدء" في واقع الخلق، يؤكّده الأن السيد المسيح، في مواجهة التقليد الذي يميّز بين المرأة والرجل. لقد كان الرجل هو المتسلط، بموجب هذا التقليد، دون أن يأخذ بعين الاعتبار، وبما فيه الكفاية، المرأة، وكرامتها التي وضعتها مسلكية الخلق في أساس العلاقات المتبادلة بين الشخصيّن، الذين يجمع بينهما رباط الزوجيّة. تلك هي مسلكيّة الإنجيل والفداء، التي تُذكر بها أقوال، السيد المسيح، وتؤكّدها." (5-12)
ب. النساء في الإنجيل
إذا أردنا أن نتفحّص حضور المرأة في الإنجيل، نجد أنه يتسم بالتنوع والفرادة. في الرسالة البابوية "كرامة المرأة" هناك شرح وتفسير لهذا الحضور. هناك النساء المصابات بالمرض اللواتي كنّ ينلن الأشفية والنعم الخاصة ومنهن أصبحن تلميذات. الكثير من الأمثال التي ضربها يسوع حول حقيقة الملكوت تظهر فيها المرأة أيضًا مثل العذارى الحكيمات والأرملة وغيرها. هناك أيضًا المرأة الخاطئة والمرأة الزانية حيث لم يعملهما يسوع من منطلق تميزي يجعل من خطيئتهما خطئية أكبر فقط لكونهما نساء. فهو لا يريد القصاص بل الإصلاح والإنهاض. من المشاهد المهمة جدًا في العهد الجديد لدينا مشهد حاملات الطيب اللواتي أتين القبر أولاً مصممين في وفائهن للمسيح أكثر من الرسل. لذلك نلن شرف سماع خبر القيامة المجيدة أولاً.
وهذا هو منطلق يسوع نحو الإنسان: عدم تمييز المرأة عن الرجل بالحصول على النعمة وعلى مكانتها الخاصة في رؤية الله الخلاصية للبشر.
ج. رؤية المجمع الڤاتيكاني
يعكس المجمع الڤاتيكاني الثاني هذه الرؤية الإنجيلية في الوثيقة "فرح ورجاء" (Gaudium et spes) ويعطي نتائجها العملية على الشكل التالي: " ليعتبرنَّ كل إنسان قريبه، دون إستثناء أحد، ‘كذاته الأخرى’؛ ليهتمنّ قبل كل شيء بوجودِهِ وبالوسائل الضرورية التي تمكنه من عيشٍ كريم ". (فرح ورجاء 27). تضيف الوثيقة أيضًا أن الرؤية الإنجيلية للإنسان تحتم المساواة الجوهرية بين الجميع في الكرامة الإنسانية، وهذا ما يجعلها تدعو إلى :" مِن المؤكد أن كلَّ الناس ليسوا بمتساوين بقواهم الجسدية المختلفة، ولا بقواهم العقلية والأدبية المتنوعة. غير أن كلَّ نوعٍ من التمييز يتناول حقوق الإنسان الأساسية، إجتماعية كانت أم ثقافية، سواءً إرتكز على الجنس واللون والعرق وعلى الوضع الإجتماعي أو اللغة، أو الدين، يجب أن يُتعدّى ويُلغى لأنه منافٍ لتصميم الله. والحقُ يُقال إنه لمن المُحزن أن نتأكد أن هذه الحقوق الأساسية، حقوق الإنسان، لَمْ تُحترم بعد في كل مكان. أليست هذه هي الحال عندما تُحرم المرأة حقّ إختيار زوجها بملء حريتها، أو تختار طريقةَ حياتها أو أن تحصل على تربيةٍ وثقافةٍ تُشبهان التربية والثقافة المُعترَف بهما للرجل؟" (فرح ورجاء 29)
مريم العذراء نموذج للتلاقي الإسلامي المسيحي حول المرأة في مجتمع اليوم
واقع اليوم يفرض علينا أن نعود ونفكّر في سبل للتلاقي حول دور المرأة في مجتمعنا. هنا يبرز لدينا دور نبوي مهم جدًا للسيدة العذراء في تقريب وجهات النظر بين أبناء الوطن الواحد إذ إن كرامتها وتكريمها مشترك ولها دور أساسي في تدبير الله الخلاصي للبشر معترف به في الإنجيل والقرآن. وهو يمكن أن يشكل أرضية مشتركة للبحث في دور المرأة. إنها أم ومربية، محبّة، فقدت ابنها والوحيد وبقيت صامدة تقوم بدورها في توجيه الأجيال نحو الله.
أ. السيدة العذراء مثال الأم والمؤثرة في المجتمع
للسيدة العذراء حظوة كبيرة لدى المسلمين والمسيحيين وإيمان متبادل بمكانتها الخاصة، إذ إن الله اصطفاها وباركها وعمل على تنشئتها وتهيئتها لتلد السيد المسيح. هناك أيضًا اعتقاد مشترك بحبلها العجائبي من دون رجل ومن صونها لذاتها قبل والولادة وأثنائها وبعدها. تعظم الديانتان أيضًا طيبة مريم وطواعيتها وتفاعلها مع النعمة التي منحها لله لها. كما تبجّلان تواضعها وعيشها البسيط لمشيئة الله من خلال تكريس حياتها للصلاة، من خلال أمومتها للمسيح ومن خلال مسيرة حياتها كاملة. وهذا ما أنتج الاتفاق على تعيين عيد البشارة عيدًا وطنيًا لكلّ اللبنانيين. إنه بالفعل لَنموذج عن حوار الحياة الذي يفوق بعظمته كلّ حوار آخر.
إن البعد العملي لهذه الرؤية غنية جدًا ومفيدة لبحثنا. فكما كان للسيدة العذراء من دور محوري أساسي خاص كذلك يجب أن يكون للمرأة اليوم. وكما استطاعت السيدة العذراء أن تتمم مشيئة الله في حياتها كذلك يجب اليوم أن يُتاح للمرأة المجال لتعيش وتحقق دورها في إنجاز مشيئة الله بما هو ملائم لها. هذا يعني أن تُعطى المجال لتلعب دور في المجتمع وفي الدين وطبعًا على مثال السيدة العذراء في الأمومة.
فتحقيق المساواة بين المرأة والرجل لا يجب أن يعني إلغاء الفروقات والتمايز بين الاثنين بل يعني تصالح وتكافئ وتكامل، كل بحسب الموهبة المعطاة له.
ب. المرأة والأمومة
إن الأمومة لَإسهام عظيم للمرأة في عملية الخلق وفي دعم الأسرة وهي تعبّر بشكل سامٍّ عن معنى كون الإنسان مخلوق لأجل الآخر وعن مبدأ عطاء الذات. نعود لرسالة "كرامة المرأة" التي توضح أن عطية الذات بالزواج تتوج بالانفتاح على عطية الحياة الجديدة. وهذه الكرامة التي خصّها الله للمرأة هي مصدر فرح لها لأنها تشارك بشكل فريد في عمل الله الأزلي. وتؤكد الرسالة، وهي على حق، أن الأمومة ترتبط أساسًا بالطابع الأنثوي لأنها تعبّر عن البعد الشخصي للعطاء (كرامة المرأة 6، 18).
إن احترام الحياة التي تنشأ في أحشاء الأم واجب وذلك بتحريم الإجهاض والامتناع عن الإنجاب. وكم تتألم المرأة من عملية الإجهاض أكثر من أي شخص آخر وذلك لأنها تفقد ثمرة أحشائها.
بالتأكيد، لا يجب أن ننظر إلى الأمومة على أنها الدور النهائي للمرأة ولا يجوز أيضًا أن تناط بها وحدها مسؤولية التربية. فكون الزوجين في شراكة يعني أن يلعب كلٍّ منهما دوره الخاص لكن أيضًا عليهم أن يتقاسما الأدوار المشتركة في شراكة تفاهمية.
نريد في الختام أن نؤكد على أهمية دور الأسرة حيث المرأة الأم هي الجامع والحاضن لكلّ أعضائها. الله أعطى الأسرة رسالة خاصّة وهي أن تكون أولى خلايا المجتمع الحيّة. وهي تؤدي رسالتها إذا ما وفّقت في أن تجعل من البيت معبدًا لله بتقوى أعضائها المتبادل وبالصلاة المشتركة التي يرفعونها إلى الله.
مع الشكر والمحبة والبركة
غريغوريوس الثالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم