صاحب الغبطة يوسف

مؤتمر انطاكية

٢٦ ٦ ٢٠١٤

 
بروتوكول 359/2014ع                      عين تراز 17/6/2014



كلمة صاحب الغبطة غريغوريوس الثالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندرية وأورشليم
في افتتاح المؤتمر الأنطاكي
26/6/2014




صاحب الغبطة البطريرك الأنطاكي والأخ الحبيب والصديق الأمين
"وفي أنطاكية دعي التلاميذ أولا مسيحيين" (أع 11، 26)

لكم الشكر يا صاحب الغبطة يوحنا العاشر على فكرتكم الرائعة ومبادرتكم السبَّاقة إلى عقد المؤتمر الأنطاكي! ولكم الشكر على دعوتكم الأخوية الكريمة بأن أشارك في افتتاح هذا المؤتمر الأول من نوعه. وألقي كلمتي هذه أمام هذه الكوكبة المتألّقة من أصحاب الغبطة والسادة الأساقفة ونخبة الإكليروس وشخصيّات لامعة وجمهور المشاركين في المؤتمر.

إنني أشعر بالفخر والتواضع والمسؤولية والخوف.... لأنني أحمل هذا اللقب المسيحي الكنسي التاريخي المشرقي الأثيل: بطريرك أنطاكية وسائر المشرق! هذا اللقب هو هكذا سامٍ وعظيمٌ وهامٌ حتى إنه، لأسباب تاريخية وثقافية وقومية ولغوية ولاهوتية وكنسية، خمسة بطاركة يحملون هذا اللقب لكي يقوموا بأعباء هذا الكرسي الأنطاكي الأثيل، في كلّ أبعاده وأعباءه التاريخية والجغرافية والحضارية والعلمية واللاهوتية والثقافية واليونانية والسريانية والدينية، المسيحية والإسلامية، الشرقية والغربية والعالمية...

هذا هو كرسي أنطاكية!

لقب البطريرك الأنطاكي الأوسع بين ألقاب البطاركة إذ إنه يطال الشرق بأسره فيقال: بطريرك أنطاكية وسائر المشرق.

الكرسي الأنطاكي يغطي مساحة جغرافية واسعة الأفاق.

ثقافة هذا الكرسي متشعّبة: يونانية سريانية ولاحقًا عربية. وهي في آن واحد يونانية وأكثر. وسريانية وأكثر وعربية وأكثر ولاتنية رومانية. تعايشت في الكرسي الأنطاكي هذه اللغات والثقافات وتتابعت وتكاملت وتمازجت وتميّزت.
البطريركية الأنطاكية هي الوحيدة التي كتبت صلواتها بلغات ثلاث، متعاقبة، نصًّا وإنشادًا وتلحينًا بصلتيكيًّا وموسيقيًّا رائعًا.

الأنطاكيون أحبّوا الثقافة اليونانية ونصّروها وعرّبوها وعمّدوها وسرينوها وأهدَوها أدبًا وعلمًا وطبًّا وهندسة وجغرافيا وشعرًا وفلسفة وصوفية ولاهوت، أهدوها إلى العالم العربي والإسلامي... وجعلوها تراثًا عربيًّا مسيحيًّا إسلاميًّا متفاعلاً متواصلا متضامنًا. كان هو الأساس في مجمل عناصر الحضارة الإسلامية العربية. هذا التراث كان القاعدة والأساس لبناء مجتمع تعدّدي عاش فيه المسيحيون والمسلمون على مدى 1435 عامًا (هجريًّا) في السراء والضراء وحكموا معًا وحاربوا معًا وزرعوا معًا وطوّروا مجتمعاتهم معًا، وذلك في كلّ أرجاء رقعة ومساحة البطريركية الأنطاكية، نحو الشرق إلى كل البلاد العربية ونحو الغرب الواجهة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.

لا بل إنّ البطريركية الأنطاكية هي التي جمعت في حلقة ثقافية فريدة، محور (cycle) حضارة البحر الأبيض المتوسط. هذه مراحله: آباء الكنيسة الشرقية،كما أشرنا أعلاه، نصَّروا وعمَّدوا الثقافة اليونانية، فأصبحت مسيحية، ثمّ مع تطوّر الأوضاع عرّبوا الثقافة اليونانية في مجتمع إسلامي عربي فأصبحت ثقافة إسلامية، ومن ثمّ نقل العرب هذه الثقافة اليونانية المعرَّبة إلى شمال أفريقيا وإلى إسبانبا وإلى الأندلس. ومن خلال وجود العرب في الأندلس انتقلت هذه الثقافة اليونانية المتنصّرة المسيحية والثقافة العربية الإسلامية المتأثّرة بالثقافة اليونانية إلى أوروبا، وتمازجت وتفاعلت مع الثقافة اللاتينية... وهكذا، بواسطة أنطاكية وعن طريق الشرق تعرَّف الغرب على الثقافة اليونانية وتمازجت بفضل أنطاكية الثقافة اليونانية واللاتينية في العصور الوسطى في أوروبا.

هذه هي مسيرة أنطاكية والكرسي الأنطاكي والبطريركية الأنطاكية ومسيرة مسيحيي الشرق الأنطاكيين! مسيرة نشرت شعلة الإيمان المسيحي التي أتى بها يسوع السيد المسيح الذي هو مشرق المشارق. إنه ولد في فلسطين، ولكن المسيحيّة ولدت وترعرعت في رحاب البطريركية الأنطاكية.

وهكذا صحّ القول اللاتيني المأثور: "من الشرق يأتي النور". وهذا ما ننشده في نشيد الإرسال لعيد الميلاد: "إن مخلّصنا قد افتقدنا من العلى من مشرق المشارق نحن الذين كنّا في الظل والظلمة" وقد صادفنا نور الحق لأن الربّ قد ولد من البتول". وهذا ما أبرزه بطريقة فريدة البابا القديس يوحنا الثاني في رسالته "نور الشرق" عام 1995.

وهكذا كان للكرسي الأنطاكي وللبطريركية الأنطاكية الدور الأكبر في انتشار المسيحية وبشرى الإنجيل المقدس.

البطريركية الأنطاكية هي الأكثر تفاعلاً باتجاه الشرق والغرب. وهي الأكثر تفاعلاً مع الإسلام والمسلمين ومع العالم العربي ومع العروبة: فكرًا ولغةً وثقافةً، وحضارةً، وعلمًا وأدبًا وفنًّا.

وهكذا تميّزت البطريركية الأنطاكية بانفتاحها على الآخر وأمانتها لهويّتها، وجمعت بطريقة رائعة بين الأمانة للهوية والانفتاح على الآخر، على المشرق العربي ذي الأغلبية المسلمة، وعلى الغرب، والقسطنطينية (إسطنبول)، وعلى الإسكندرية وعلى روما ولاحقًا على روسيا ورومانية وسائر بلدان أوروبا الشرقيَّة.

تميّزت البطريركية الأنطاكية بنوعٍ خاصٍّ بأمانتها للوحدة المسيحية، فلم تنجرَّ وراء تيارات الانشقاق الذي شقَّ ثوب الكنيسة على مراحل مختلفة وبقيت أنطاكية خارج الصراع بين روما والقسطنطينية، وكانت تُربتها الأكثر قبولاً لبذور ومحاولات الوَحدة بين المسيحيين... وفيها ثلاث طقوس أنطاكية: الطقس اليوناني (البيزنطي)، والطقس السرياني، والطقس الماروني المتفرّع عن السرياني، وفيها خمس طوائف متفرّعة من هذه الطقوس: الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، والسريان الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والموارنة. وتتعايش هذه الطقوس والطوائف والكنائس والبطريركات الخمسة بطريقة حقًا نموذجية فريدة.

ويمكنني بحقٍّ أن أؤكّد وأقول: إن الحركة المسكونية هي بأفضل صحّة وأكثر فعالية في نطاق البطريركية الأنطاكية والتعاون قائم بينها مع الحوار والتضامن على كل ّالمستويات.

يقول المثل الفرنسي “noblesse oblige” ونحن نقول:  “l’Orient oblige”أي "الشرق يلزم".

إنّ موقف الكنيسة الأنطاكية من مسيرة وحدة المسيحيين ولاسيّما بين كنيسة الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك، هو وديعة وتراث ودور ومسؤولية، ومن الضروري الحفاظ على هذه الميزة المسكونية الوحدوية الفريدة. ونأمل بأن يتّخذ هذا المؤتمر قرارات وتوصيات حول مسيرة العمل لأجل وحدة المسيحيين الشرقيين فيما بينهم، بالإضافة إلى عملهم المسكوني على مستوى الكنيسة في العالم.

ونأمل أن يكون هذا المؤتمر الأنطاكي الأرثوذكسي منطلقًا ومقدّمة لمؤتمر أنطاكي خماسي، مؤتمر يضم البطريركيات الأنطاكية الخمسة، لكي نسير معًا على طريق المحبّة والوحدة لأجل أن نتابع رسالتنا في هذا المجتمع، ولكي نحقّق معًا دعوة وصلاة يسوع: "يا أبتاه! ليكونوا واحدًا! لكي يؤمن العالم."

أنطاكية ودمشق

إن انتقال كرسي أنطاكية الأرثوذكسي إلى دمشق أمر يمكن التوقّف عنده قليلاً، وأكتفي بهذه الملاحظة. إنّ هذا الانتقال يعني أنّ دمشق في موقعها الجغرافي والتاريخي والكنسي والمدني والسوري هي امتداد أنطاكية، وهي حاملة تراث أنطاكية ومؤتمنة على وديعة إرث انطاكية التاريخي الغني، ودمشق قبلت وتقبل تحدِّي انتقال كرسي أنطاكية إليها. وهذه مسؤولية مشتركة بين البطاركة الخمس الذين يحملون هذا اللقب.

أخي صاحب الغبطة! أصحاب الغبطة إخوتي بطاركة مدينة الله العظمى أنطاكية! في الختام أتمنى أن يُبرز هذا المؤتمر الأنطاكي نور هذا الكرسي الأنطاكي في تألّقه وجماله، ونأمل أننا كما حضرنا وشاركنا في افتتاحه أن نبقى حاضرين في فكركم ومداولاتكم وقرارات وتوصيات هذا المؤتمر فلا تغيب عنكم آفاق هذا الكرسي الأنطاكي المقدّس.

وبدورنا سنواكب هذا المؤتمر بصلواتنا وأدعيتنا بحيث يكون هذا المؤتمر حقبة ومحطّة هامّة في كلّ الجهود المبذولة محليًّا وعالميًّا في المؤسسات التي تُعنى باهتمام كبير بالحضور المسيحي والدور المسيحي كما حدَّده السينودس لأجل الشرق الأوسط بهاتين العبارتين الكنسيتين المعبرتين: "شركة وشهادة"

شركة وشهادة لكي يبقى القطيع الأنطاكي الصغير واعيًا ومحبًّا لدوره الكبير تجاه القطيع الكبير، ومستعدًا لمتابعة القيام بهذا الدور، بأن يكون مع ولأجل مجتمعنا العربي، وفي هذا المجتمع العربي أن يكون نورًا وملحًا وخميرة!

ولنودع المسيح الإله وأمّنا مريم العذراء وذواتنا وبعضنا بعضًا وكرسينا الأنطاكي وحياتنا كلها. آمين

 

+غريغوريوس الثالث

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم
للروم الملكيين الكاثوليك