صاحب الغبطة يوسف

كلمة في ذكرى المطران جرمانوس معقّد

١١ ٢ ٢٠١٢



كلمة غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث
في الذكرى المئويّة الأولى
لوفاة المثلث الرحمة
المطران جرمانوس معقّد
(1852 – 1912)
مؤسّس جمعيّة الآباء البولسيين

 

نجتمع اليوم بدعوة كريمة من قدّس الرئيس العام لجمعيّة الآباء البولسيين الجزيل الاحترام الأب الياس آغيا المحترم، لكي نحيي ذكرى السنة المئويّة الأولى لرحيل رجل كان له شأن كبير في تاريخ كنيسة بطريركيّة الروم الملكيين الكاثوليك ألا وهو المثلّث الرحمة المطران جرمانوس معقّد ( +1912 ).
إنه ابن دمشق التي أعطت الكنيسة رجال كنيسة لمعوا في سمائها. وهو الراهب المخلّصي وكان يحمل اسم إغناطيوس.
وقد أمضى ردحًا من الزمن نائبًا بطريركيًّا في القدس وأغنى الكرسي البطريركيّ الأورشليميّ بأن اشترى المرحلة السّادسة والتي بنى فيها كنيسة على اسم وجه المسيح إحياءً لذكرى المرأة ( المدعوة ڤرونيكا ) التي مسحت وجه المسيح وهو سائر على درب الآلام حاملاً صليبه. كما أنّه في تلك الحقبة أكبَّ على مراجعة كتاب الميناون أو أعياد المشاهرة حسب الطقس اليوناني البيزنطي.

تربطني هذه الحقبة بالمطران معقَّد لأنّني خلفته بعد مئة سنة نائبًا بطريركيًّا ( 1974 – 2000 ) ورئيسًا للجنة الليترجية السينودسيّة والبطريركيّة منذ سنة 1986. وقد تردَّدتُ كثيرًا في قبول النيابة البطريركيّة ورئاسة اللجنة الليترجيّة ولكني عندما راجعت التاريخ ووجدتُ أنّه قد سبقني في هذا الموقع راهب مخلّصي أوكل إليه المثلّثُ الرحمة سلفي البطريرك غريغوريوس الثاني يوسف سيور المخلّصي الدمشقي المصري، العمل في الكتب الطقسيّة أيضًا كراهب مخلّصي، تشجّعتُ لا بل شعرتُ بالفرح والفخار، ورأيت في هذا التعيّين المزدوج المفاجئ إصبع العناية الإلهيّة.
وهاكم ما كتبه الأب أغناطيوس معقّد في مقدمة الميناون الذي نقّحه عن الأصل اليوناني في القدس بين 1881 – 1884 .
 وهو يذكر في المقدّمة مشقّة العمل الذي طلب منه، فيقول: " وقد طالما عالج رؤساء البيعة أمر طبعه فلم يتهيّأ لهم ذلك لما فيه من النقفات الباهظة وخاصّة لما يلزم بذله من الجهد والكد في تنقيحه وتطبيقه على أصله اليوناني. على أن غبطة البطريرك كيريوس كيريوس غريغوريوس يوسف ذي الغيرة الشهيرة والهمّة الماضية لما رأى شدّة لزوم هذا الكتاب وضرورة طبعه بعد تنقيحه أصدر إليّ أمره البطريركيّ السامي بأن أُعنَى بضبطه ومقابلته على الأصل اليوناني وتنقيح عبارته وسكبها في قالب عربي سهل المأخذ. ومع ما أنا عليه من القصور لم يسعني إلا القيام بأمر مولاي. وكان من حسن الحظ سكناي في أورشليم حيث يوجد كثيرون من العارفين اللغة اليونانية حق المعرفة. فآزرني أحدهم على نوال الأُمنية حتى أصبح التنقيح كترجمة جديدة كما يتبين لدى المقابلة. وكان الفراغ من تنقيحه في 11 تشرين الثاني 1883 بمدينة أورشليم ".
من مقدمة الميناون يتضح لنا علو كعب المعقّد في اللغة العربية وجدّية الترجمة التي قام بها عن الأصل اليوناني بأمانة ودقّة وبراعة وبلاغة. وقد استغرقت ثلاث سنوات. ولهذا فقد قرر المجمع المقدّس اعتماد نص المعقّد وإثباته في"كتاب الصلوات الطقسية".

أشكر المخلص أنّه بارك هذه المرحلة المقدسية في حياتي. ومشيت على خطى المطران معقّد في القدس في الإنجازات العمرانيّة على أنواعها، وفي العمل  الليترجي الذي أعتبره أكبر إنجاز في حياتي. وهكذا يسير الأبناء على خطى الآباء!
والمعقّد المخلصيّ هو المؤسس البولسي! الذي بعد خدمته في القدس، أصبح مطرانًا على بعلبك ومن ثمّ أطلق في الكنيسة جمعيّة الآباء البولسيين، وبقي رئيسًا لها حتى وفاته ( 1903 – 1912 ) هذه الجمعيّة المرتبطة مباشرة بالبطريركيّة والبطريرك هو المرجع الكنسي لها.
وهو يفرح من سمائه بهذه الجمعيّة التي تفخر بها كنيستنا، بعطائها وخدماتها وبخاصة في العمل الرسولي ونشر الكلمة والتعليم الكهنوتي.
ولهذا فإنّني سعيد أنّ أكون مع أبنائي وإخوتي البولسيين في ذكرى هذه الحَبر الجليل والشخصيّة اللامعة المميّزة بالعلم والغَيرة والفضيلة في سماء كنيستنا.
وباسم الكنيسة أشكر للآباء البولسيين خدماتهم الرائدة، واستزيدهم من عطاءٍ من خلال مزيد من التخصص في خدمة كلمة الله التي كانت موضوع السينودس العام للسنة (2008)، وكانت موضوع التوصيتين الثانية والثالثة من توصيات السينودس الخاص بالشرق الأوسط (تشرين الأول 2010). وسيكون موضوع السنودس العام المقبل ( تشرين الأول 2012 ) "بشرى الإنجيل المتجدِّدة". وهو موضوع يشكّل أهم الأهداف التي من أجلها أراد المطران معقّد أنّ يؤسس جمعيّة جديدة، تخرج عن التقليد الشرقي القديم بأن تكون الجمعيات رهبانية وتتخذ دستورًا لها قوانين القديس باسيليوس الكبير. كما هو الحال في رهبانياتنا الثلاثة الرجاليّة والأخرى النسائيّة.
وللتذكير أورد هنا نصّ التوصيتين المتعلّقتين بكلمة الله في السينودس الخاص بالشرق الأوسط، وفيها أمور تحفّز نشاط جمعية المرسلين البولسيين الأحباء في ذكرى مؤسسهم.

" إنَّ كلمة الله هي روح الخدم الرَّاعويّة وأساسها. نتمنّى أن تمتلك كلُّ أسرة الكتاب المقدَّس.
" يشجّع آباء السِّينودس على المثابرة اليوميّة على قراءة كلمة الله والتأمُّل فيها، ولا سيّما القراءة الربّيَّة، وعلى خلق موقع بيبلي على الأنترنت، يضع بتصرّف المؤمنين شروحات وتفاسير كاثوليكيّة، وعلى إعداد كتيِّب يقدِّم للكتاب للكتاب المقدّس في عهدَيه القديم والجديد، وعلى وضع منهجيّة سهلة لقراءة الكتاب المقدّس ".
" ويشجّعون أيضاً الأبرشيات والرعايا على تنظيم دورات بيبليّة لشرح كلمة الله والتأمل فيها، حتى تتسنّى الإجابة على أسئلة المؤمنين، لخلق جوّ من الألفة مع الكتاب المقدّس، والتعمُّق في روحانيّة الكتاب المقدّس، والالتزام في العمل الرسوليّ ".

وأجد تحفيزًا آخر لرسالة جمعيّة الآباء المرسلين البولسيين في المجمع حول " بشرى الإنجيل المتجدّدة ". ويطيب لي أنّ أذكر بعض ما ورد في النشرة الأولى حول هذا المجمع، حيث أجد أنّه ينسجم مع دعوة هذه الجمعيّة المباركة.

"إنَّ السَّيِّد المسيح له المجد بميلاده المجيد ومجيئه إلينا، أعطانا الحياة الإلهيَّة التي تُغيِّر وجه الأرض، مجدِّدًا العالم" (الرُّؤيا 21: 5). "فنحن لسنا فقط موضوع الخلاص الذي أُعطي لنا، بل نحن أيضًا مبشِّرون بالخلاص وشهودٌ له" (رقم 3 من المقطع الأوَّل).
"بشرى الإنجيل المتجدِّدة لا تعني إنجيلاً جديدًا، "لأنَّ يسوع المسيح هوَ هوَ أمسِ واليوم وإلى الأبد" (عبرانيُّون 13: 8). إنَّ بشرى الإنجيل المتجدِّدة تعني: جوابًا مناسبًا متوافقًا مع علامات الأزمنة، ومع حاجات النَّاس والشعوب اليوم، ومع كلِّ المشاهد التي ترسُمُ الثقافة التي من خلالها يُمكننا أن نُعبِّر عن هويَّتنا ونكتشف معنى وجودنا. بشرى الإنجيل المتجدِّدة تعني تنميةَ ثقافةٍ أكثرَ عمقًا وتأصُّلاً في الإنجيل. وتعني اكتشاف الإنسان الجديد الكامن فينا بالرُّوح القدس الذي أُعطي لنا من الآب بيسوع المسيح" (رقم 23 من المقطع الثالث)."
"ولنعمل على حمل بشرى الإنجيل المتجدِّدة بحماسة! ولنختبر الفرح الحلو والمنعش، فرحَ مَن يحمل البشرى، ولو شعر بأنَّه يزرع بالدُّموع" (مزمور 126، 6)".

من خلال هذا النصّ نكتشف المحوريّة المطلقة لواجب حمل البشرى على عاتق الكنيسة، من خلال جميع مؤسّساتها، ولكن أيضًا من خلال كلّ معتمد يصبح فيه كما يقول بولس الرسول " فكر المسيح ". وهذا ماحققته الجمعيّة البولسيّة عبر تاريخها من خلال خصوصًا مجلّة المسرّة والمطبعة والمكتبة البولسيّة، التي هي مجلّتنا ومطبعتنا ومكتبتنا في كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، وفي لبنان والعالم العربيّ والمنشورات الحواريّة الإسلاميّة.
وهل ننسى بهذا المعنى كلمات القدّيس بولس شفيع المعقّد والجمعيّة التي أسسها: " إنّي إنّ كنتُ أبشِّر، فليس في ذلك لي مفخرة. لأنها فريضة عليَّ لا بد منها. والويل لي إنّ لم أبشِّر " ( 1 كورنثس 9 : 16 ).

إنَّ عالمنا العربيّ الذي اجتازته تسونامي الثورات منذ نهاية العام 2010 وخلال العام 2011 ولا تزال تهز بلداننا مع بداية هذا العام 2012. إنَّ هذا العالم يحتاج إلى "رجاء جديد" ليس فقط لأجل لبنان، ولكن لجميع أقطار هذا العالم الذي أحبَّه الله وأراد يسوع أنّ يكون وطنهُ ومسقطَ رأسه في فلسطين ومكان انتشار الإيمان به البلاد العربيّة. هذه العالم يحتاج إلى تجلّي أبناء الله. أبناء القيامة. أبناء الرجاء وأبناء المحبة، ورسل مستقبل جديد واعد. ويحتاج إليكم أنتم المرسليين البولسيين، يا أبناء المعقّد العظيم.
وفي خضمِّ هذه التغيُّرات المصيريّة المفصليّة في عالمنا العربيّ، نشعر بضرورة تعميق مفهوم دعوة الجمعيّة البولسيّة كما قال لنا المجمع الفاتيكاني الثاني:"إنَّ آلام وآمال العالم هي آمال وآلام أبناء الكنيسة".

السّيد المسيح  يشدِّد عزائمنا في هذه الأوضاع الصعبة ويقول لنا: "لا تخافوا" إنَّني أعتبر أن الخوف يأتي بسبب نقصٍ في الإيمان والمحبَّة. وإذا كنَّا نحبُّ بعضنا بعضًا فلا نخاف. إذا كان إيماننا قويًّا فلا نخاف، بالرَّغم من وجود أسبابٍ للخوف. وأقول مردِّدًا ما قاله البابا بندكتوس السَّادس عشر: "حيث الله فهناك المستقبل". ولا مستقبل بدون الله.
وأصوغ أماني لإخوتي وأبنائي وأحبائي في جمعيتي، جمعيّة الآباء البولسيين في المئويّة الأولى لذكرى وفاة مؤسسهم المطران جرمانوس معقد، مذكِّرًا إيّاهم بأهميّة عملهم الأساسي وهو حمل البشرى. أصوغ هذه الأماني بكلمة من البابا بولس السّادس: "فليشعر عالمنا الذي يفتِّش اليوم، تارةً بقلق وتارةً برجاء، أنَّ مَن يحمل  إليه البشرى الجميلة الطَّيِّبة، ليسوا مبشِّرين تعساء محبَطين، بلا صبر وقلقين. ولكنَّهم بالحريّ خدَّام الإنجيل، تُشعُّ حياتُهم بالحرارة، قبلوا هم أوَّلاً في قلوبهم فرح المسيح، ومستعدُّون أن يُضحُّوا بحياتهم لأجل أن تنتشر بشرى الملكوت، ولأجل أن تكون الكنيسة مزروعةً في العالم".

وكلُّ يوبيل وجمعيتي، جمعيّة الآباء البولسيين
 بخير وتقدّم وازدهار ومزيد من الخدمة والعطاء.


      مع محبَّتي وبرَكَتي ودعائي

            + غريغوريوس الثّالث

        بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريّة وأورشليم     للرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك